هذه المذكرة منتقاة من حوار الاستاذ مكي على ادريس في منتديات عبري تبج
&&&&&&&&&&&&&&&&&
ليلة مولدي
كان شيوخ قرية (عبري)، يصطفون حول فانوس المولد المعلّق بأعلى القضيب المنتصب بوسط سوق عبري، ذات ليلة قمرية، في منتصف القرن الماضي، يؤمّهم الحاج فرح، ولفيف من هواة الذكر والمديح النبوي، حين هرول بعض صبية حي "بُلُك" حاملين خبر مولد طفل ذكر في بيت الدنقلاوي علي إدريس بلال، حيث نفحته " فاطمة الشيخ المحسية، بالمولود الثالث ، بعد " بدرية " و"محمد" الذي اكتسب لقب " عطية" في سنوات لاحقة.
كانت القرية في تلك السنوات تعجّ بالأسر القادمة من نواحي دنقلا، ربّما منذ حملة ود النجومي الانتحارية التي أجبرت عواصفها العديد من السكان على الهجرة شمالاً، باتجاه سادا (مصر)، وكان أبي يعمل مزارعاً في سواقي العمدة عبد الرحمن حسن –رحمه الله-،، بصحبة عبد الرحيم خليل (العمدة لاحقا)، وعبد الرحمن قرناص، عليهما الرحمة، وكان جدي إدريس بلال، الذي ينتمي إلى جزيرة "مقاصر" قد جاء إلى قرية عماره قادماً من كوشة، بعد انتقال المركز منها إلى عبري حوالي 1914م، وقد عمل خبيراً في طريق درب الأربعين.. هكذا قال أبي.
قال أبي أنه في تلك الليلة، مدّ رقبته وسط الحضور، ليقتنص نظرات الترحيب في وجوه الحاضرين، وكانوا قد انهمكوا في طقوس الأكل، فبرغم أن مولد طفل جديد في تلك السنوات، كان عبئاً إضافياً، فإن أبي بدا منشرحاً، لأن ميلاد طفل جديد في بيته، كان يعني بلغة العامة توثيق صلاته بعمارة وعبري التي هاجر إليها عام 1914م، بتأكيد أهليته الأسرية،.. أبي تزوج بأمي في يوم 26/4/ 1938م قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.
بعد تناول الأكل، وقبل الشروع في طقوس الذكر والدعاء ، صدح الحاج فرح، قائلاً: مبروك يا (علي سونجي)، وإن شاء الله يتربى في عزّك، ويا ريت تسميه "مبارك"، لأنه وُلد في ليلة المولد، عندها أومأ الحضور لأبي مهنّئين ومباركين..
جاءت عمّتي نفيسة –رحمها الله- وكانت تسكن بقرية عمارة، جاءت يوم السبوع وهي تحمل اسم "مكاوي" للمولود الجديد، وكانت مبهورة بالاسم، الرنان الذي يحمله أحد أبناء العمدة عبد الرحمن حسن، عمدة عمد سكوت،
وقالت أمّي أن زوجة العمدة، أعلنت عدم قبولها بسرقة اسم ولدها، وقالت لها من فوق حمار أبيض ملجم بالحديد:
"خلاص!! التاني كمان سموه حسن" إشارة للراحل المقيم حسن عمدة – رحمه الله- ..
وجاءتني الفرصة، وأنا في الصف الأول الابتدائي (الثانوية العامة بلغة محي الدين صابر)، كانت شهادة ميلادي الحقيقي ( محلك سر)، تحمل اسم مكاوي، بينما كان رفاق الصبا ينادونني " مكي" فاخترت الأخير عنواناً، لسهولة النطق، وخروجاً عن عقوق بيت العمدة، الذي كان له فضل بقائنا كأسرة بقرية عبري، وامتدت تلك الصلة وثيقة – حتى تاريخه-
هنا أرجو أن استنهض صديقي خليل عبد الرحيم، ورفيق الصبا، ذو الذاكرة الحديدية، ليخوض معي هذا السرد، فقد كان صديقاً متمرداً، لا تفارقه أنفته المستحقة، وودّه الباقي، وللتاريخ أذكر أن "أسرة العمدة" ظلّت تحتفظ بتلك الآصرة الدافئة، بينها وبين عوام الناس، أبناءً وأحفاد، ليس الآن فحسب، بل كانوا كذلك في أوج سلطاتهم اللامحدودة، على ذمّة الراوي.
وهكذا جئت إلى الوجود ..
ولدت هكذا بقامة أبي ولونه الأسود، وثورته التي لا تحدها حدود، حين يغضب.. وعفوية أمي وطيبتها، ونظرتها الصوفية للحياة.. وبعض رذاذ الشارع المفتوح.
ولدت في 17 ( نوفمبر)، من ذلك العام، وأحتفلُ معنوياً بعيد ميلادي مع الفريق إبراهيم عبود قائد السطو العسكري الأول على السلطة ببلادنا، منذ خروج الإنجليز.. لذا أجد الأستاذة الفاضلة " أم النوبيين" سعاد إبراهيم أحمد، لا تحب تذكيري بذلك التأريخ البغيض..
كان بعض الوافدين من نواحي المحس ودنقلا وحلفا، يسكنون في الجزء الشمالي من القرية، شرق السوق الحالي.. وهو الجزء الذي كان فيما مضى، معقلاً ومسكناً للعسكر وموظفي الدولة من إنجليز ومصاروة، بينما ترقد قرية عبري القديمة منبسطة على شاطئ النهر العتيق، وتمتد جنوباً بشكل نصف دائري، محفوفاً بالآلاف من أشجار النخل المشرئبة، دون انقطاع، حتى مشارف جزيرة صاي، وتضم عبرنساب، عبرنكونج، وقرية تبج.
قبل الحرب العالمية الثانية، كانت المراكب الشراعية الضخمة، تمخر عباب النيل من كرمة والشايقية إلى الحدود المصرية، وتحمل في متونها شحنات من التمور والبقوليات التي تنتج بكميات متواضعة في الحيازات الصغيرة والمتمثلة في الزراعة بالسواقي والشواديف، بينما كانت القوافل البريّة تتجه شمالاً إلى وادي حلفا، وجنوباً حتى كرمة، محمّلة بالبضائع، وأثواب الدمور والحلويات والسكر والشاي وبعض المنتجات الزراعية. وبعض المسافرين.
كان تجار السّكوت، يسافرون في قوافل صغيرة إلى منطقة الدّبة، ثم يعبرون النيل إلى نواحي طريق دنقلا-أم درمان، ثم يميلون إلى الدويم، وكانت لهم سوقاً تجارية ، يشترون منها المصنوعات اليدوية،والجلدية بشكل عام، ومواعين القرع المنقوش، وأقداح الأكل الخشبية، المصنوعة في الغرب السوداني ( كردفان ودارفور، ويقول بعض كبار السنّ، أن بعض كبار التّجار كانوا يتاجرون بين المحس والسكوت، والغرب مباشرة بطريق درب الأربعين، وعن ذلك الطريق هاجر الكثير من النوبيين إلى غرب السودان، ولا أستبعد العكس، ففي قرانا نجد العديد ممّن ترجع أصولهم إلى الغرب السوداني ، وعلى رأي بعض المؤرخين فإن المحس وأهل السكوت ونواحي حلفا، هاجروا فعلاً من كردفان إلى ضفاف النيل واستقروا في مناطقهم الحالية، واختلطت لغاتهم باللهجة الدنقلاوية وأفرزت لهجة الفاديجا الحالية والتي تضم مناطق (محس-سكوت-حلفا – والنوبة المصرية)، أما لهجة الكنوز فبقيت على ما كانت عليه، لم يتمكن الفاديجا من التأثير عليهم، إلاّ بقدر ذلك الفارق البسيط بين لهجتي دنقلا- كنوز، وهم شعب مملكة دنقلا قبل حلول الفاديجا، فاسم الكنوز مجرد لقب رفيع تقلده حاكم مملكة الكنز الإسلامية، بعد تسليمه "أبي ركوة" الأموي لسلطات الوالي في مصر.
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظهرت أولي العربات التجارية، وحلّت محل القوافل البرية والمراكب الشراعية. ويقال أن المرحوم )هاشم محمد بدر) من أوائل الذين حملوا رخصة قيادة العربات في منطقتنا، بينما يقول عمنا الراحل محمد عثمان حاج، أنه شاهد "علاء الدين محجوب" من عبري، يقود سيارة عام 1935م ، وقال بأن تلك السيارة كانت من بقايا حرب الكفرة، والتي تمّت صيانتها في مدينة وادي حلفا، "التوفيقية" قبل مجيء اللورد كتشنر إليها، والذي مدّ خط السكة حديد من حلفا إلى كرمة" كمرحلة أولى، قبل أن يتجه إلى أم درمان بطريق (حلفا- أبي حمد (.
كانت قرية عبري محطّة برّية وسوقاً تقليدية للقرى التي تجاورها، يتوارد إليها أجناس عديدة من البشر، يمرّ بها حجّاج بيت الله الحرام القادمين من غرب السودان وبلاد التكرور، وقد حملوا فوق ظهورهم بعض البضائع التقليدية كالعطور وقلائد الخرز والدبابيس ..الخ، كما يمر بها المسافرون من نواحي السودان المختلفة، في طريقهم إلى مصر، بينما تخصّص الشوايقة والمناصير في شراء شتول نخل السكوت المعروفة بالجودة،
منذ بواكير صباي كنت أعمل في "مطعم" الخال عثمان الشيخ –رحمه الله- وهكذا دخلت في أجواء السوق المكتظ بالمتحدّثين بالعربية، ( لا أدري، ككثير من أبناء القرى في الشمالية ،متى أجدت التحدّث باللغة العربية)، ولكني أفهم أن وجودي في سوق عبري جعلني منفتحاً، أكثر من غيري من الأنداد.
في الحي، كانوا يلقبوني ب(اوشّي) ومعناه العبد، لسمرة لوني، والذي أفاخر به الدنيا، فهي ورقتي الأصلية للانتماء ، كوني نوبياً، ولم يربطوا اسمي بأمي إلاّ في مرحلة متقدّمة (مكي بابه)، وكنت فخوراً بذلك، حيث أن كثيرون في قرانا يحملون مثلي أسماء أمهاتهم، من أمثال سعيد حجّة، سيد حميدة، عباس صليحة، حسن دُقدُق، حسن اريا، عامر سيدة. ولا شك أن الخلفية الأمومية للشعب النوبي، ومدى احترام الأهالي لأمهاتهم، وعلى أرضية ثقافة (أم الملك)، وتتويج "ابن الأخت" كملك، أفرز هذا الجانب المهم في دور المرأة في الحياة الاجتماعية، وصنع الحياة وحماية البيئة.
آشه ابدون – جدّتي لأمي :
هناك، شخصية محورية لوّنت ميول مكي علي إدريس في تلك السنوات الضبابية، تلك هي" آشه أبدون"، جدّتي لأمي، وترجع أصولها إلى قرية جدّي – المحس، تزوّجها جدّ ي الشيخ إدريس الصائغ، الذي كان (تبد) حقيقي وفنان، ورّّث أخوالي " عثمان الشيخ" وحسن الشيخ، رحمهما الله، تلك المهنة النادرة (الآن) في منطقتنا، ولكن الأحفاد مبارك عثمان الشيخ وإخوته بعبري استبدلوها بأعمال اللحام وشيئاً من تلتيق اللديترات بسوق عبري.. آشه أبدون هذه، ورّثتني الكثير، الصّبر ، القناعة، توسّم الخير في الآخرين، والسخرية أحياناً، فقد كانت إنسانة مرحة، وجادّة بصرامة، ولكني لم استوعب دروسها في إدارة الخد الأيسر عند الشدائد.. قضيت معها أحلى سنوات الطفولة، واستعمرت خيالي البسيط بقصصها ونوادرها التي لا تنتهي، كان حضنها الدافئ مسرحي ومربط بوارجي وسفني الخضراء، ، أماّ أهم ما رضعته منها فهي اللغة النوبية، المحسية المطعّمة بلون الأرض وشبقها الدائم للبقاء الآمن.. آشه ابدون كانت لا تخشى شيئاً في هذا العالم قدر خشيتها وارتعابها من مجرد رؤية (العسكر)!!! " كورتي مور.. ويبدو أنها كانت على حق.. ففي كل المعمورة يظل العسكر – في خدمة الشعب- ولكن أنظمتنا البائدة والآيلة إلى الفناء، شوّهت صورة الحارس الأمين إلى صور بشعة من " زوّار الفجر" وملاحقة الأبرياء وحماية الظلمة والمفسدين ومصّاصي دماء الشعوب، ولبن الأطفال!!
كان عالمي محدوداً بدرجة بريئة، كنت أعتقد أن بلاد السودان تقع شمالاً، مباشرة بعد كوشة، ومن خلال حكاياتها وقصصها المثيرة تعرّفت على مفردات لغوية، أجدها الآن نائمة في تجاويف الذّاكرة..
البيئة، كانت صديقتي، كنت أحاول أن أجد تفسيراً لأي شيء تقع عليه عيناي، ولهذا السبب كنت أتلقى لدغات عديدة، من جراء حشر أنفي ويدي في جُحور المجاهيل، كاد يقتلني ذلك الحبّ الخرافي للاستطلاع.... غير أن الأستاذ محمد صالح قاسم (من أرض الحجر) والذي قام بتدريسنا في مدرسة عبري الأولية، وصفني بالاهمال، وقال لبعض زملائه " ذكاء مدفون في الرمال" يومها لم أفهم المعنى العام، ولكنني اعتقدت أنه يمدحني ويصفني بالذكي.. وكنت " خفية" أشعر بنوع من الفخر.. أذكر ولا أنسى، جدول الضرب، والضرب المبرّح الذي كان يلازمنا صباح كل يوم سبت، رحم الله أستاذ مادة الحساب (الرياضيات لاحقاً(، فقد ورّثني كرهاً لا يزول لتلك المادة المزعجة.. كما أحببت ذلك الأستاذ الرياضي محمد شريف "من حلفا"، والذي حبّب إليّ مادة التاريخ... والبحث الحثيث.. ربما إعجابي به " كمعلّم صادق" هو الذي وجّهني للبحث والتنقيب في ملفات الثقافة والتاريخ..
أمّا اللغة العربية، فقد تلقيت دروسها الأولي وامتهنت عشقها على يد أستاذي الكبير" الراحل حسن أحمد صابونة" رحمه الله، "معلّم الخلوة" في مباني مدرسة عبري الإبتدائية القديمة، بالجانب المقابل لقصر الشيخ أحمد خاطر، وبمواجهة بيت محمد عبد الحميد الأزهري (مُمُور)، أقول بهذا لأنني كنت قادراً، قبل الدخول في المدرسة الأولية، على كتابة خطابات أهل قريتي "بُلُك"، ببراعة، وكنت كاتم أسرارهم الأمين.. ذات مرة جلست عمّتي نفيسة إدريس وأمرتني بكتابة خطاب إلى وحيدها عبد العزيز الذي كان يعمل "محولجي" في السكة حديد بمحطّة كبوشية، وكان قد تأخر في رد خطاب سابق لها.. وكانت تمليني الخطاب وتصرّ على معاينة ما أكتب (بإعادة قراءة ما كتبت)، وتصاعد غضبها رويداً رويداً، ثم أنها بكت بحرقة، فكتبت " أمّك بكت وماتت من البكاء" وفي الأسبوع التالي حضر ولدها عبد العزيز من كبوشية، للعزاء!!
في المدرسة الأولية (الابتدائية حاليا)، تفتّحت آفاقي الاجتماعية، بوجود تلاميذ من القرى المجاورة، ولا زالت تلك العلائق الحميمة تقبع في قاع الذاكرة بحلوها ومرّها.. كنت ضمن التلاميذ (الخارجيين) الذين لا يسمح لهم بالسكن في الداخلية. كان الفقر جامعاً لكل التلاميذ، لم يكن ثمة فوارق بيننا وبين أبناء التجار المحليين، وفي تلك السنوات ظهرت أولى نوازعي القيادية عندما كوّنت عصابة من أبناء "عبرساب" للسطو على مزارع البطيخ وأشجار الفاكهة النادرة هنا وهناك. هناك شائعة غريبة تقول بأن سرقة البطيخ "حلال!!"، وقد أعزو ذلك إلى روح الكرم والتكافل الموغلة في العلاقات العامة، بحيث أن الجائع والضيف يمكنهم أخذ البطيخ دون استئذان، ويبدو ذلك من شيوع جلب الرطب من النخيل دون مساءلة مالكيها، عن طيب خاطر...
سوف أتعرض لتفاصيل تلك المرحلة، لاحقاً، ويقيني بأن الأخ اللدود "حاج" وذلك هو لقب صديق العمر خليل عبد الرحيم.. سوف يحشر أنفه كالعادة، فهو لن يسمح لي بتناول قصص تلك المرحلة، قبله...
حوالي 1959م، افتتح شباب ورجال عبري ناديهم العريق، على أرضية نشاط اجتماعي ثقافي رفيع، في البداية تم اختيار منزل عبده رجب، بجوار مدرسة البنات القديمة، وفي تلك السنة كان الخال عثمان الشيخ إدريس يدير "البوفيه" المتواضع، ويقدم مشروبات الشاي والكاكاو والسحلب المجلوب من مصر، وشندوتشات الفول والعدس للراغبين، وكنت حينها أعمل مساعداً لخالي وأقدم الطلبات للأعضاء المنهمكين في لعب الورق، الطاولة، السيجة، فوق أبراش قديمة.. ولأستاذي الفاضل شوقي حمزة، هنا، رؤية الرائد، فما زالت اللافتة القديمة التي خطّها بيده على بوابة النادي، تثير في الأجيال اللاحقة، الإحساس الحقيقي لتواصلها الحتمي الجميل.. ستكون مشاركته هنا، باقة ورد لنا جميعاً.
أبي لم يكن مزارعاً، كان يعمل كنّاساً في القرية مع المرحوم "شحاته" "من عمارة" وتحت إشراف جمال علي خليل، ولاحقاً فؤاد عبد الرحيم، من عمارة أيضاً. ولذا كنت أقضي أوقات الفراغ في مساعدة أصدقائي، ومنهم " خليل مسكة" " وعبده سلامة" وزوج خالتي محمد خليل سورته.. واكتسبت كثيرا من الخبرة وحب جارف للأرض والنبات حين يضجّ بالحياة ويلوّن الحقول بالخضرة اليانعة.. وبرغم أن فناني وشعراء تلك المرحلة كانوا لا يرون في مهنة الزراعة سوي الفجيعة والذُل الدائم، وكان مخرجهم الباقي هو الهجرة إلى "مصر، أم الدنيا"، ولو كان بيدي الأمر كنت أقول لهم، أن السودان النوبي هو أب، وأم الدنيا الحقيقي بشهادة جلّ المؤرخين، في العالم. ياريت ،، مصر ما تمشي قدام لاستئصال المتبقي من أرضنا النوبية.. ياريت.
&&&&&&&&&&&&&&&&&
ليلة مولدي
كان شيوخ قرية (عبري)، يصطفون حول فانوس المولد المعلّق بأعلى القضيب المنتصب بوسط سوق عبري، ذات ليلة قمرية، في منتصف القرن الماضي، يؤمّهم الحاج فرح، ولفيف من هواة الذكر والمديح النبوي، حين هرول بعض صبية حي "بُلُك" حاملين خبر مولد طفل ذكر في بيت الدنقلاوي علي إدريس بلال، حيث نفحته " فاطمة الشيخ المحسية، بالمولود الثالث ، بعد " بدرية " و"محمد" الذي اكتسب لقب " عطية" في سنوات لاحقة.
كانت القرية في تلك السنوات تعجّ بالأسر القادمة من نواحي دنقلا، ربّما منذ حملة ود النجومي الانتحارية التي أجبرت عواصفها العديد من السكان على الهجرة شمالاً، باتجاه سادا (مصر)، وكان أبي يعمل مزارعاً في سواقي العمدة عبد الرحمن حسن –رحمه الله-،، بصحبة عبد الرحيم خليل (العمدة لاحقا)، وعبد الرحمن قرناص، عليهما الرحمة، وكان جدي إدريس بلال، الذي ينتمي إلى جزيرة "مقاصر" قد جاء إلى قرية عماره قادماً من كوشة، بعد انتقال المركز منها إلى عبري حوالي 1914م، وقد عمل خبيراً في طريق درب الأربعين.. هكذا قال أبي.
قال أبي أنه في تلك الليلة، مدّ رقبته وسط الحضور، ليقتنص نظرات الترحيب في وجوه الحاضرين، وكانوا قد انهمكوا في طقوس الأكل، فبرغم أن مولد طفل جديد في تلك السنوات، كان عبئاً إضافياً، فإن أبي بدا منشرحاً، لأن ميلاد طفل جديد في بيته، كان يعني بلغة العامة توثيق صلاته بعمارة وعبري التي هاجر إليها عام 1914م، بتأكيد أهليته الأسرية،.. أبي تزوج بأمي في يوم 26/4/ 1938م قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.
بعد تناول الأكل، وقبل الشروع في طقوس الذكر والدعاء ، صدح الحاج فرح، قائلاً: مبروك يا (علي سونجي)، وإن شاء الله يتربى في عزّك، ويا ريت تسميه "مبارك"، لأنه وُلد في ليلة المولد، عندها أومأ الحضور لأبي مهنّئين ومباركين..
جاءت عمّتي نفيسة –رحمها الله- وكانت تسكن بقرية عمارة، جاءت يوم السبوع وهي تحمل اسم "مكاوي" للمولود الجديد، وكانت مبهورة بالاسم، الرنان الذي يحمله أحد أبناء العمدة عبد الرحمن حسن، عمدة عمد سكوت،
وقالت أمّي أن زوجة العمدة، أعلنت عدم قبولها بسرقة اسم ولدها، وقالت لها من فوق حمار أبيض ملجم بالحديد:
"خلاص!! التاني كمان سموه حسن" إشارة للراحل المقيم حسن عمدة – رحمه الله- ..
وجاءتني الفرصة، وأنا في الصف الأول الابتدائي (الثانوية العامة بلغة محي الدين صابر)، كانت شهادة ميلادي الحقيقي ( محلك سر)، تحمل اسم مكاوي، بينما كان رفاق الصبا ينادونني " مكي" فاخترت الأخير عنواناً، لسهولة النطق، وخروجاً عن عقوق بيت العمدة، الذي كان له فضل بقائنا كأسرة بقرية عبري، وامتدت تلك الصلة وثيقة – حتى تاريخه-
هنا أرجو أن استنهض صديقي خليل عبد الرحيم، ورفيق الصبا، ذو الذاكرة الحديدية، ليخوض معي هذا السرد، فقد كان صديقاً متمرداً، لا تفارقه أنفته المستحقة، وودّه الباقي، وللتاريخ أذكر أن "أسرة العمدة" ظلّت تحتفظ بتلك الآصرة الدافئة، بينها وبين عوام الناس، أبناءً وأحفاد، ليس الآن فحسب، بل كانوا كذلك في أوج سلطاتهم اللامحدودة، على ذمّة الراوي.
وهكذا جئت إلى الوجود ..
ولدت هكذا بقامة أبي ولونه الأسود، وثورته التي لا تحدها حدود، حين يغضب.. وعفوية أمي وطيبتها، ونظرتها الصوفية للحياة.. وبعض رذاذ الشارع المفتوح.
ولدت في 17 ( نوفمبر)، من ذلك العام، وأحتفلُ معنوياً بعيد ميلادي مع الفريق إبراهيم عبود قائد السطو العسكري الأول على السلطة ببلادنا، منذ خروج الإنجليز.. لذا أجد الأستاذة الفاضلة " أم النوبيين" سعاد إبراهيم أحمد، لا تحب تذكيري بذلك التأريخ البغيض..
كان بعض الوافدين من نواحي المحس ودنقلا وحلفا، يسكنون في الجزء الشمالي من القرية، شرق السوق الحالي.. وهو الجزء الذي كان فيما مضى، معقلاً ومسكناً للعسكر وموظفي الدولة من إنجليز ومصاروة، بينما ترقد قرية عبري القديمة منبسطة على شاطئ النهر العتيق، وتمتد جنوباً بشكل نصف دائري، محفوفاً بالآلاف من أشجار النخل المشرئبة، دون انقطاع، حتى مشارف جزيرة صاي، وتضم عبرنساب، عبرنكونج، وقرية تبج.
قبل الحرب العالمية الثانية، كانت المراكب الشراعية الضخمة، تمخر عباب النيل من كرمة والشايقية إلى الحدود المصرية، وتحمل في متونها شحنات من التمور والبقوليات التي تنتج بكميات متواضعة في الحيازات الصغيرة والمتمثلة في الزراعة بالسواقي والشواديف، بينما كانت القوافل البريّة تتجه شمالاً إلى وادي حلفا، وجنوباً حتى كرمة، محمّلة بالبضائع، وأثواب الدمور والحلويات والسكر والشاي وبعض المنتجات الزراعية. وبعض المسافرين.
كان تجار السّكوت، يسافرون في قوافل صغيرة إلى منطقة الدّبة، ثم يعبرون النيل إلى نواحي طريق دنقلا-أم درمان، ثم يميلون إلى الدويم، وكانت لهم سوقاً تجارية ، يشترون منها المصنوعات اليدوية،والجلدية بشكل عام، ومواعين القرع المنقوش، وأقداح الأكل الخشبية، المصنوعة في الغرب السوداني ( كردفان ودارفور، ويقول بعض كبار السنّ، أن بعض كبار التّجار كانوا يتاجرون بين المحس والسكوت، والغرب مباشرة بطريق درب الأربعين، وعن ذلك الطريق هاجر الكثير من النوبيين إلى غرب السودان، ولا أستبعد العكس، ففي قرانا نجد العديد ممّن ترجع أصولهم إلى الغرب السوداني ، وعلى رأي بعض المؤرخين فإن المحس وأهل السكوت ونواحي حلفا، هاجروا فعلاً من كردفان إلى ضفاف النيل واستقروا في مناطقهم الحالية، واختلطت لغاتهم باللهجة الدنقلاوية وأفرزت لهجة الفاديجا الحالية والتي تضم مناطق (محس-سكوت-حلفا – والنوبة المصرية)، أما لهجة الكنوز فبقيت على ما كانت عليه، لم يتمكن الفاديجا من التأثير عليهم، إلاّ بقدر ذلك الفارق البسيط بين لهجتي دنقلا- كنوز، وهم شعب مملكة دنقلا قبل حلول الفاديجا، فاسم الكنوز مجرد لقب رفيع تقلده حاكم مملكة الكنز الإسلامية، بعد تسليمه "أبي ركوة" الأموي لسلطات الوالي في مصر.
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظهرت أولي العربات التجارية، وحلّت محل القوافل البرية والمراكب الشراعية. ويقال أن المرحوم )هاشم محمد بدر) من أوائل الذين حملوا رخصة قيادة العربات في منطقتنا، بينما يقول عمنا الراحل محمد عثمان حاج، أنه شاهد "علاء الدين محجوب" من عبري، يقود سيارة عام 1935م ، وقال بأن تلك السيارة كانت من بقايا حرب الكفرة، والتي تمّت صيانتها في مدينة وادي حلفا، "التوفيقية" قبل مجيء اللورد كتشنر إليها، والذي مدّ خط السكة حديد من حلفا إلى كرمة" كمرحلة أولى، قبل أن يتجه إلى أم درمان بطريق (حلفا- أبي حمد (.
كانت قرية عبري محطّة برّية وسوقاً تقليدية للقرى التي تجاورها، يتوارد إليها أجناس عديدة من البشر، يمرّ بها حجّاج بيت الله الحرام القادمين من غرب السودان وبلاد التكرور، وقد حملوا فوق ظهورهم بعض البضائع التقليدية كالعطور وقلائد الخرز والدبابيس ..الخ، كما يمر بها المسافرون من نواحي السودان المختلفة، في طريقهم إلى مصر، بينما تخصّص الشوايقة والمناصير في شراء شتول نخل السكوت المعروفة بالجودة،
منذ بواكير صباي كنت أعمل في "مطعم" الخال عثمان الشيخ –رحمه الله- وهكذا دخلت في أجواء السوق المكتظ بالمتحدّثين بالعربية، ( لا أدري، ككثير من أبناء القرى في الشمالية ،متى أجدت التحدّث باللغة العربية)، ولكني أفهم أن وجودي في سوق عبري جعلني منفتحاً، أكثر من غيري من الأنداد.
في الحي، كانوا يلقبوني ب(اوشّي) ومعناه العبد، لسمرة لوني، والذي أفاخر به الدنيا، فهي ورقتي الأصلية للانتماء ، كوني نوبياً، ولم يربطوا اسمي بأمي إلاّ في مرحلة متقدّمة (مكي بابه)، وكنت فخوراً بذلك، حيث أن كثيرون في قرانا يحملون مثلي أسماء أمهاتهم، من أمثال سعيد حجّة، سيد حميدة، عباس صليحة، حسن دُقدُق، حسن اريا، عامر سيدة. ولا شك أن الخلفية الأمومية للشعب النوبي، ومدى احترام الأهالي لأمهاتهم، وعلى أرضية ثقافة (أم الملك)، وتتويج "ابن الأخت" كملك، أفرز هذا الجانب المهم في دور المرأة في الحياة الاجتماعية، وصنع الحياة وحماية البيئة.
آشه ابدون – جدّتي لأمي :
هناك، شخصية محورية لوّنت ميول مكي علي إدريس في تلك السنوات الضبابية، تلك هي" آشه أبدون"، جدّتي لأمي، وترجع أصولها إلى قرية جدّي – المحس، تزوّجها جدّ ي الشيخ إدريس الصائغ، الذي كان (تبد) حقيقي وفنان، ورّّث أخوالي " عثمان الشيخ" وحسن الشيخ، رحمهما الله، تلك المهنة النادرة (الآن) في منطقتنا، ولكن الأحفاد مبارك عثمان الشيخ وإخوته بعبري استبدلوها بأعمال اللحام وشيئاً من تلتيق اللديترات بسوق عبري.. آشه أبدون هذه، ورّثتني الكثير، الصّبر ، القناعة، توسّم الخير في الآخرين، والسخرية أحياناً، فقد كانت إنسانة مرحة، وجادّة بصرامة، ولكني لم استوعب دروسها في إدارة الخد الأيسر عند الشدائد.. قضيت معها أحلى سنوات الطفولة، واستعمرت خيالي البسيط بقصصها ونوادرها التي لا تنتهي، كان حضنها الدافئ مسرحي ومربط بوارجي وسفني الخضراء، ، أماّ أهم ما رضعته منها فهي اللغة النوبية، المحسية المطعّمة بلون الأرض وشبقها الدائم للبقاء الآمن.. آشه ابدون كانت لا تخشى شيئاً في هذا العالم قدر خشيتها وارتعابها من مجرد رؤية (العسكر)!!! " كورتي مور.. ويبدو أنها كانت على حق.. ففي كل المعمورة يظل العسكر – في خدمة الشعب- ولكن أنظمتنا البائدة والآيلة إلى الفناء، شوّهت صورة الحارس الأمين إلى صور بشعة من " زوّار الفجر" وملاحقة الأبرياء وحماية الظلمة والمفسدين ومصّاصي دماء الشعوب، ولبن الأطفال!!
كان عالمي محدوداً بدرجة بريئة، كنت أعتقد أن بلاد السودان تقع شمالاً، مباشرة بعد كوشة، ومن خلال حكاياتها وقصصها المثيرة تعرّفت على مفردات لغوية، أجدها الآن نائمة في تجاويف الذّاكرة..
البيئة، كانت صديقتي، كنت أحاول أن أجد تفسيراً لأي شيء تقع عليه عيناي، ولهذا السبب كنت أتلقى لدغات عديدة، من جراء حشر أنفي ويدي في جُحور المجاهيل، كاد يقتلني ذلك الحبّ الخرافي للاستطلاع.... غير أن الأستاذ محمد صالح قاسم (من أرض الحجر) والذي قام بتدريسنا في مدرسة عبري الأولية، وصفني بالاهمال، وقال لبعض زملائه " ذكاء مدفون في الرمال" يومها لم أفهم المعنى العام، ولكنني اعتقدت أنه يمدحني ويصفني بالذكي.. وكنت " خفية" أشعر بنوع من الفخر.. أذكر ولا أنسى، جدول الضرب، والضرب المبرّح الذي كان يلازمنا صباح كل يوم سبت، رحم الله أستاذ مادة الحساب (الرياضيات لاحقاً(، فقد ورّثني كرهاً لا يزول لتلك المادة المزعجة.. كما أحببت ذلك الأستاذ الرياضي محمد شريف "من حلفا"، والذي حبّب إليّ مادة التاريخ... والبحث الحثيث.. ربما إعجابي به " كمعلّم صادق" هو الذي وجّهني للبحث والتنقيب في ملفات الثقافة والتاريخ..
أمّا اللغة العربية، فقد تلقيت دروسها الأولي وامتهنت عشقها على يد أستاذي الكبير" الراحل حسن أحمد صابونة" رحمه الله، "معلّم الخلوة" في مباني مدرسة عبري الإبتدائية القديمة، بالجانب المقابل لقصر الشيخ أحمد خاطر، وبمواجهة بيت محمد عبد الحميد الأزهري (مُمُور)، أقول بهذا لأنني كنت قادراً، قبل الدخول في المدرسة الأولية، على كتابة خطابات أهل قريتي "بُلُك"، ببراعة، وكنت كاتم أسرارهم الأمين.. ذات مرة جلست عمّتي نفيسة إدريس وأمرتني بكتابة خطاب إلى وحيدها عبد العزيز الذي كان يعمل "محولجي" في السكة حديد بمحطّة كبوشية، وكان قد تأخر في رد خطاب سابق لها.. وكانت تمليني الخطاب وتصرّ على معاينة ما أكتب (بإعادة قراءة ما كتبت)، وتصاعد غضبها رويداً رويداً، ثم أنها بكت بحرقة، فكتبت " أمّك بكت وماتت من البكاء" وفي الأسبوع التالي حضر ولدها عبد العزيز من كبوشية، للعزاء!!
في المدرسة الأولية (الابتدائية حاليا)، تفتّحت آفاقي الاجتماعية، بوجود تلاميذ من القرى المجاورة، ولا زالت تلك العلائق الحميمة تقبع في قاع الذاكرة بحلوها ومرّها.. كنت ضمن التلاميذ (الخارجيين) الذين لا يسمح لهم بالسكن في الداخلية. كان الفقر جامعاً لكل التلاميذ، لم يكن ثمة فوارق بيننا وبين أبناء التجار المحليين، وفي تلك السنوات ظهرت أولى نوازعي القيادية عندما كوّنت عصابة من أبناء "عبرساب" للسطو على مزارع البطيخ وأشجار الفاكهة النادرة هنا وهناك. هناك شائعة غريبة تقول بأن سرقة البطيخ "حلال!!"، وقد أعزو ذلك إلى روح الكرم والتكافل الموغلة في العلاقات العامة، بحيث أن الجائع والضيف يمكنهم أخذ البطيخ دون استئذان، ويبدو ذلك من شيوع جلب الرطب من النخيل دون مساءلة مالكيها، عن طيب خاطر...
سوف أتعرض لتفاصيل تلك المرحلة، لاحقاً، ويقيني بأن الأخ اللدود "حاج" وذلك هو لقب صديق العمر خليل عبد الرحيم.. سوف يحشر أنفه كالعادة، فهو لن يسمح لي بتناول قصص تلك المرحلة، قبله...
حوالي 1959م، افتتح شباب ورجال عبري ناديهم العريق، على أرضية نشاط اجتماعي ثقافي رفيع، في البداية تم اختيار منزل عبده رجب، بجوار مدرسة البنات القديمة، وفي تلك السنة كان الخال عثمان الشيخ إدريس يدير "البوفيه" المتواضع، ويقدم مشروبات الشاي والكاكاو والسحلب المجلوب من مصر، وشندوتشات الفول والعدس للراغبين، وكنت حينها أعمل مساعداً لخالي وأقدم الطلبات للأعضاء المنهمكين في لعب الورق، الطاولة، السيجة، فوق أبراش قديمة.. ولأستاذي الفاضل شوقي حمزة، هنا، رؤية الرائد، فما زالت اللافتة القديمة التي خطّها بيده على بوابة النادي، تثير في الأجيال اللاحقة، الإحساس الحقيقي لتواصلها الحتمي الجميل.. ستكون مشاركته هنا، باقة ورد لنا جميعاً.
أبي لم يكن مزارعاً، كان يعمل كنّاساً في القرية مع المرحوم "شحاته" "من عمارة" وتحت إشراف جمال علي خليل، ولاحقاً فؤاد عبد الرحيم، من عمارة أيضاً. ولذا كنت أقضي أوقات الفراغ في مساعدة أصدقائي، ومنهم " خليل مسكة" " وعبده سلامة" وزوج خالتي محمد خليل سورته.. واكتسبت كثيرا من الخبرة وحب جارف للأرض والنبات حين يضجّ بالحياة ويلوّن الحقول بالخضرة اليانعة.. وبرغم أن فناني وشعراء تلك المرحلة كانوا لا يرون في مهنة الزراعة سوي الفجيعة والذُل الدائم، وكان مخرجهم الباقي هو الهجرة إلى "مصر، أم الدنيا"، ولو كان بيدي الأمر كنت أقول لهم، أن السودان النوبي هو أب، وأم الدنيا الحقيقي بشهادة جلّ المؤرخين، في العالم. ياريت ،، مصر ما تمشي قدام لاستئصال المتبقي من أرضنا النوبية.. ياريت.